لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستشرف للنبوة ولا يحلم بها، ولا خطر بباله يوماً أن يُدعى إلى حملها وبثها في العالم { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} … (القصص: من الآية86) ما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان، وإنما كان يلهمه الله الخلوة للعبادة تطهيراً وإعداداً روحياً، ولو كان يستشرف للنبوة ما فزع من نزول الوحي عليه أول مرة ولما رجع إلى خديجة مضطرباً خائفاً يقول: (يا خديجة مالى؟ لقد خشيت على نفسي!) ولما احتاج إلى طمأنة خديجة ومن بعدها ورقة بن نوفل بأن الله لا يخزيه، وبأن الذي رآه في الغار هو الوحي الذي كان ينزل على موسى.
لقد فوجئ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينه، حتى يتبين أنه شأن الوحي ليس أمراً ذاتياً داخلياً مرده إلى حديث النفس المجرد، وإنما هو استقبال وتلق لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وبداخل الذات، وضمُّ الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلاً في كل مرة: أقرأ يعتبر تأكيداً لهذا التلقي الخارجي، ومبالغة في نفي ما يدعيه محترفو التشكيك في الإسلام، والتلبيس على المسلمين من القساوسة المستشرقين، ومن سكن إلى آرائهم من الزنادقة المارقين المنتسبين إلى المسلمين، على أن شيئاً من حالات الإلهام، أو حديث النفس، أو الإشراق الروحي، أو التأملات العلوية لا يستدعي الخوف والرعب وامتقاع اللون !
ثم لو كان الوحي أمراً ذاتياً ـ كما يقول الزنادقة والمستشرقين ـ لما جاءت آيات في القرآن تعتب على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتلومه على بعض التصرفات! فلو كان الوحي أمراً ذاتياً ـ كما يقول الزنادقة والمستشرقين ـ لما خاطبه الله بقوله:{ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} … (يونس:94) فلو كان الوحي أمراً ذاتياً لما سكت عن بعض إجابات السائلين، ولما عانى من إشاعة الإفك شهراً كاملاً يؤذي فيه عرضه حتى أنزل الله البيان.
إن أمر الوحي معجزة خارقة للسنن الطبيعية، حيث تلقى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن الذي هو كلام الله بواسطة الملك جبريل، وقد أخبرنا بهذا. فأما المؤمنون فلا يترددون في قبوله ويقولون سمعنا وأطعنا وصدقنا وآمنا، وأما المستشرقون الزنادقة فلأنهم لا يؤمنون بنبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يُمكَّنوا من تفسير معنى الوحي، فوقعوا في الحيرة والتناقض والشك والارتياب، ولجئوا إلى الاتهامات القديمة التي سبقهم إليهم إخوانهم الجاهليون القدماء من أهل مكة الذين قالوا: إنما يعلمه بشر، وقالوا: إن هو إلا إفك افتراه وأعانه عليه قومٌ آخرون! وزاد المستشرقون في هذا العصر اتهامات مضحكة! كقولهم: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعلم من ورقة بن نوفل! ومرة يقولون: تعلم من بحيرا الراهب.وأظرف ما قالوا: تعلم من يهود مكة !! ومعلوم أن مكة لم يكن فيها يهود.
وأن ورقة بن نوفل مات قبل أن يعاود الوحي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويأمره بالبلاغ! وأن لقاءه بحيرا الراهب كان ساعة أو ساعتين وهو غلام في الثانية عشر من عمره ! ولما لم يقتنعوا هم أنفسهم بحقيقة افتراءاتهم وشكوا في صوابها قالوا: لعل القرآن مقتبس من التوراة والإنجيل! ومعلوم أيضاً أن التوراة والإنجيل لم يترجموا إلا بعد قرون من وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم لو ترجمت هذه الصحف في زمانه، فإن أميته تحول دون إفادته منها.
ولقد فتر الوحي بعد هذه المرة الأولى التي كانت في غار حراء، ليحصل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التشوق إلى العودة بعد أن ثبت لديه الحقيقة أنه أضحى نبياً.
ثم حمى الوحي بعد هذا وتتابع، وأول ما نزل بعد فترة الوحي { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } … (المدثر:1 : 7) كانت هذه الأوامر المتتابعة القاطعة أذاناً للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن الماضي قد انتهى بأن الماضي قد انتهى بمنامه وهدوئه وسلامه. وأنه أمام عمل جديد يستدعي اليقظة والتشمير، والأنظار والإعذار، فليحمل الرسالة وليوجه الناس، وليأنس بالوحي وليقو على عنائه، فإنه مصدر رسالته، ومدد دعوته وكأنه قيل له: إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاُ، أما أنت فمالك والنوم ؟ ومالك والراحة ؟ ومالك والفراش الدافئ ؟ والعيش الهادئ ؟ والنوم المريح ! قم للأمر العظيم الذي ينتظرك والعبء الثقيل المهيأ لك قم للجهد والنصب والكد والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة، وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل، والجهاد الطويل الشاق، قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد.
وقد قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فظل قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً لم يسترح ولم يسكن ولم يعيش لنفسه ولا لأهله، قام وظل قائماً على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به، عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى، عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً، لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد منذ أن سمع النداء العلوي الجليل، وتلقى منه التكليف الثقيل، جزاه الله عنا وعن البشرية خير الجزاء.
لم تكن الدعوة علنية في بادئ الإمر، بل قامت على الاصطفاء، فلم يعرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعوته في السنوات الأولى إلا على ألصق الناس به ممن يتوسم قبولهم، وممن لم تخالجهم ريبة في تصديقه، فآمنت خديجة زوجته، وعلى بن أبي طالب، وكان غلاماً في كفالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معونة منه لعمه ورداً لجميله، وآمن زيد بن حارثة مولاه، وأبو بكر صديقه الحميم ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام بين أقاربه، ومعارفه، وأهل ثقته ومودته، حتى لقد دخل في الإسلام ببركة دعوته ستة من العشرة المبشرين بالجنة عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاس، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، فضلاً عن غيرهم من المسلمين، ومن بعدهم.
ومن خلال علاقات هؤلاء وغيرهم أخذ الإسلام ينتشر في مكة وغيرها مع أن الإعلام به كان يقع على استخفاء، ودون مظاهرة في التحمس المكشوف أو التحدي السافر، إذ كانت طبيعة المرحلة تقتضي مثل هذه السياسة الشرعية من التكتم والسرية، لأن مكة كانت تمثل الزعامة الدينية للعرب، ولم بكن أهلها يسمحون لغيرهم من الممكنين أن ينازعهم في ذلك، فكيف بحفنة من الضعفاء والموالي ؟ .
واستمرت الدعوة في هدوء وحكمة، وشاء الله أن تتغلل في جميع قطاعات المجتمع بين الأحرار والعبيد والرجال والنساء والشيوخ والشباب والأغنياء والفقراء ومن جميع بطون قريش، فلا تكاد تخلو عشيرة في مكة من شخص أو أكثر شاركوا في بناء هذا المجتمع الوليد الذي عُرف أصحابه بالسابقين الأولين والذين حفظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم مكانتهم فلم يكن يُقدِّم عليهم أحد، وكان أكثر الذين استجابوا لدعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الضعفاء والموالي، وهم أقرب الناس إجابة لدعوة الرسل، لأنهم لا يصعب عليهم أن يكونوا تبعاً لغيرهم، أما أكثر الكبراء، وأهل الجاه والسلطان فيمنعهم الكبرُ وحب الجاه والرفعة عن الانقياد غالباً، وقد ترامت أنباء هذه الدعوة إلى قريش فلم تعرها اهتماماً، بل ربما لأنه حسبت محمداً أحد أولئك الديانين الذين يتكلمون في الألوهية وحقوقها كما فعل أمية بن الصلت، وعمرو بن نفيل وأشباههم وربما لأن المسلمين في هذه المرحلة لم يتعرضوا لعقائدهم وأصنامهم فلم تكترث بهم، إلا أنها سرعان ما توجست خيفة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لذيوع خبره وامتداد أثره وأخذت ترقب على الأيام مصيره ودعوته، وبدا أن الصدام بات وشيكاً بين دعاة الحق وأدعياء الباطل { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ... (يوسف: من الآية21).