دخل ابن الزبير وعمره عشر سنوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجد الرسول صلى الله عليه وسلم يحتجم -كما صح في ذلك الحديث- فناوله صلى الله عليه وسلم دم الحجامة، وقال: {يا عبد الله ! اذهب بهذا الدم واجعله في مكان لا يراه أحد، فأخذ ابن الزبير دم رسول الله صلى الله عليه وسلم -دم الحجامة، الدم المبارك الطاهر، الدم الذي عاش في ذاك الجسم الشريف، عليه أفضل الصلاة والسلام- وذهب به في إناء، فلما اختفى وراء بيوت المدينة شرب ذاك الدم الطاهر، حتى انتهى من الشرب، ثم لعق ما بقي في الصحن وعاد، فلما رآه صلى الله عليه وسلم تبسم، وعرف سر المسألة عليه أفضل الصلاة والسلام، وقال: يا عبد الله ! أين وضعت الدم؟ قال: وضعته في مكان لا يراه فيه أحد، فقال عليه الصلاة والسلام: ويل لك من الناس وويل للناس منك، لا تمسك النار } وبدأ رضي الله عنه وأرضاه، يزداد قوة إلى قوته، لأن دم الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح في جسمه فوصل إلى عروقه وشرايينه.
وأما قوله: ويل لك من الناس، وويل للناس منك، فويل لك من الناس: سوف تجد ما وجدت من الناس.. من إعراض وتكذيب وشتم وغيبة، ومن حروب، وسوف يجد الناس منك قوة شخصية وشجاعة كما يجدونها مني أنا، وأما قوله: فلا تمسك النار، فكيف تمس النار جسماً أصبح دم الرسول صلى الله عليه وسلم في شرايينه؟!
قال أهل العلم: اكتسب بذلك الدم قوة في جسمه رضي الله عنه وأرضاه، يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء : فكان يصوم سبعة أيام متواصلة -ليل نهار- ويفطر في اليوم الثامن، لقوة جسمه رضي الله عنه وأرضاه، وكان أعبد الناس، والعبادة أشرف مقام في الإسلام؛ فجسم يمنحك الله إياه أو قوة يعطيك الله إياها، ثم لا تستخدمها في مرضاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنك سوف تحاسب عليها يوم القيامة.
ووقت تمضيه في غير طاعة الله تسأل عنه يوم القيامة.
{جاء شباب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! أعطنا مما أعطاك الله، فأعطاهم من اللباس والمال إلا شاباً واحداً قال: لا أريد اللباس ولا أريد المال، فقال صلى الله عليه وسلم: فماذا تريد إذاً؟ قال: أريد مرافقتك في الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؟ قال: لا والله يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة }.
وقد كان ابن الزبير ساجداً دائماً، يقول ابن أبي مليكة : والله، لقد رأيته قضى ليلة من الليالي راكعاً حتى أصبح، وليلة ساجداً حتى أصبح، وكان إذا وقف في صلاته كأنه سارية لا يتحرك، فيأتي الحمام والعصافير فتقف على رأسه ثم تطير: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2] هذا هو الاتصال بالحي القيوم، وهذه هي عظمة المسلم، وهذا هو الباقي عند الله تبارك وتعالى.
وحدث في يوم من الأيام أن اقتحم سيل عارم الحرم المكي -بيت الله العتيق- حتى أصبح السيل عند مقام إبراهيم عليه السلام، فخرج أهل مكة يبكون خائفين على الكعبة أن تهدم، أما هو فخلع ثيابه وائتزر ونزل يطوف سبعة أشواط وهو يسبح في السيل، قال أهل العلم: ليس لنا أحد طاف بالسيل سابحاً إلا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه.
وبينما هو شاب خرج عمر بن الخطاب في خلافته فلما رآه الشباب فروا؛ لأن عمر رضي الله عنه كان مهاباً، كان يخاف منه الناس، لقوة إيمانه وشكيمته رضي الله عنه، ففر الشباب إلا ابن الزبير رضي الله عنه، فقد استمر واقفاً في مكانه، فرآه عمر فتبسم، وأراد أن يستجلي الخبر، فقال: ما وراءك يـا ابن الزبير ؟ لماذا لم تفر مع الناس؟ قال: ليس الطريق ضيقاً فأوسع لك، وما فعلت ذنباً فأخافك، فقبَّله عمر رضي الله عنه، ودعا له، وحيا هذه البطولة، النادرة، والصرامة الفائقة، التي تعلن الرأي في حرية, وتقول الكلمة في صراحة، وتثبت مكانها ولو أزيحت الرءوس عن أكتافها.